هناك حقيقة تم تجاهلها من قبل صانعي القرار خلال العقود الماضية من قبل الأنظمة التي حكمت العراق وهذه الحقيقة تنص" على أن التنمية الاجتماعية والثقافية هي نتاج للنمو الاقتصادي وسياسات التنمية" . وهذا يعني أن هناك نوع من العلاقة الجدلية أو التفاعل الديناميكي وعلاقات التأثير المتبادل بين حالة التنمية الاقتصادية من ناحية وواقع التنمية البشرية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية ، فالسياسات الهادفة إلى تحسين واقع التنمية البشرية والاجتماعية والثقافية لا يمكن أن تحقق أهدافها بدون وجود مصدر اقتصادي مستقر لتمويل تلك البرامج ، من هنا تتأكد أهمية عملية تنمية القطاعات الإنتاجية ، وأهمية بناء اقتصادي قوي ومستقر، لكونه السبيل الوحيد لضمان انسانية (اجتماعية وثقافية) مستقرة
وفي ضوء هذه الحقائق يمكن ان نفسر ما يجري حاليا في العراق من ارتفاع كبير في معدلات الفقر والجريمة والبطالة والمظاهر الأخرى للتخلف الاجتماعي والثقافي والتدهور الإنتاجي . فقد أدت ظروف عدم الاستقرار التي مر بها الاقتصاد العراقي، خلال فترات الحروب والحصار الاقتصادي وما تبعها من احتلال وهجمات ارهابية الى إهمال للقطاعات الإنتاجية والتنمية الاقتصادية وعملية الاستثمار بشكل عام، و توجيه القسم الأعظم من الموارد التي حققها العراق خلال العقود السابقة نحو تمويل الإنفاق الأمني والعسكري،وقد أسفر عن هذا التوجه تقليص الدعم الموجه لقطاعات التنمية الإنسانية وفي مقدمتها قطاعي الصحة والتعليم، وما ترتب على تلك السياسات من تعاظم المخاطر والتحديات التي واجهت التنمية الإنسانية في العراق واستشراء الفقر وعدم المساواة و المظاهر الأخرى للتخلف الاجتماعي والثقافي و حالة التدهور الإنتاجي .
وللأسف لم يطرأ تغيير مهم على هذا التوجه بعد احتلال العراق فجر التاسع من نيسان 2003 و لعدة أسباب في مقدمتها تركز اهتمام الأحزاب والحركات التي تدير العملية السياسية على كيفية الاستيلاء على مواقع السلطة والمال العام ، و كيفية احتلال مواقع النفوذ أكثر من اهتمامها بالنواحي ذات الصلة بشأن الاقتصادي والتنموي وبخاصة مشكلة البطالة وإعادة أعمار البنية الإنتاجية والبنية التحتية ، فلم يطرح أي من هذه الاحزاب برنامج اقتصادي بعيد المدى للنهوض بالواقع الاقتصادي والمعيشي، يهدف الى حشد الجهود لتخفيف العبء عن كاهل المواطن العراقي الذي عانى منذ أربعة عقود مختلف صنوف القهر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي .
بناء على هذا التحليل فإن السياسات الاقتصادية الهادفة إلى النهوض بالواقع الاجتماعي والثقافي وتحسين نوعية الحياة في العراق في المستقبل ينبغي أن تضع الآليات الكفيلة بالنهوض بالقطاعات الإنتاجية وعملية الاستثمار كسبيل وحيد لرفع مستوى التنمية الإنسانية في العراق.